لغط بعض المشاغبين بأن القرآن قد لا يسلم من التحريف فإن اختلاف الناس في قراءته قد تكون سببا لزيادة بعض كلمات فيه أو نقصها منه، وهذا ظن لا يجول إلا في خيال من يريد إنكار الحس. فقد قلنا: إن النبي كان يستكتب القرآن عشرات من القراء وكان قد حفظه هو نفسه عن ظهر قلب وحفظه معه عشرات من الناس وكانوا يتعبدون بتلاوته في صلواتهم ويفصلون بآياته في أقضيتهم فكيف يعقل أن يقع فيه التحريف مع هذه العناية كلها؟.
لم يكن القرآن كغيره من الكتب التي سبقته محتكرا في يد طائفة من الطوائف حتى يسبق إلى الذهن ظن في احتمال طروء التحريف إليه قصدا أو عفوا بل كان عاما شائعا بين أيدي المسلمين أمروا أن يتعبدوا بتلاوته وأن يحكموا به فكيف يتصور أن يقع فيه تحريف ولا يدري به جمهورهم وهم إذ ذاك جاعلوه دستورهم في كل محاولاتهم الدينية والدنيوية والاجتماعية. وهل يعقل أن يقع فيه تحريف أو تبديل ولم يأتنا خبر ذلك مع علمك بأن الصحابة كانوا يتنافسون في ضبط ألفاظ الأحاديث وصغريات الأمور المتعلقة بالدين؟ هل يتصور أن يقع مثل هذا الأمر الجلل ولا يرفعون به رأسا وهم كانوا على ما علمت من العناية والاهتمام بشأنه؟.
ثم إن القرآن جمع على عهد رسول اللّه وعلى عهد أبي بكر وكان الكثيرون من جامعيه في مصاحف يتلونه في بيوتهم ولما جمعه عثمان أخيرا كان كتابه وحفاظه لا يزالون على قيد الحياة فكيف يعقل أن يتطرق إليها التحريف والحال كما رأيت؟. إن شأن المسلمين في الأحاديث وتحريهم للصادق منها، ونبذهم ما لم يبلغ سنده غاية القوة أمر معلوم مشهور. ولم تقم على مثله أمة من أمم المعمورة. وقد كذب على رسول اللّه في حياته حتى اضطر لأن يخطب الناس ويقول: »من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ولكنه لم يقل في يوم من الأيام: من كذب على اللّه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. لأن ذلك كان مستحيلا لحفظ القرآن بالكتابة كما قدمنا.
ثم إن الإسلام قد طالب كل آخذ به الدليل على ما يقوله وما يعتقده وبث فيهم من روح النقد ما لا يسمح لهم بأخذ شيء قبل أن يزنوه بقسطاس العقل، ويمتحنوه بمحك النقد. وقد سلكوا في جمع الأحاديث مسلكا يضرب به المثل في التحقيق والتمحيص حتى إن الرجل كان يضرب آباط الإبل من المدينة إلى أقصى الشام أو ما وراء النهر ليسمع حديثا عن راوٍ يقال: إنه صادق الرواية: وربما عاد من رحلته بخفي حنين لأنه لما طبق عليه أسلوبه الصارم في النقد لم يقو على الامتحان فنص على أنه ضعيف أو موضوع. ومن شاء أن يطلع على الغرائب في هذا الباب فليطلع على أساليب جامعي الحديث من أمثال مالك وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وغيرهم ليتحقق أن هؤلاء القادة كانوا من النقد والتمحيص في مستوى لم يبلغه أحد لا في القرن العشرين حتى أنه لم يصح لدى مجموع المحدثين من الأحاديث المتواترة إلا نحو سبعة عشر حديثا من عدة ملايين وما بقي فقد قسموه إلى صحيح وحسن ومشهور وضعيف وموضوع إلى غير ذلك مما لم يسطر مثله في تاريخ الأديان لأمة من الأمم.
وقد اضطروا لأجل زيادة تمحيص الأحاديث للنظر في حال الرواة فأنشؤوا لذلك علم التراجم فكانوا ينتقدون تاريخ كل راوٍ نقدا صارما حتى إن من ثبت عليه أنه أكل في الطريق مرة أو تسامح في بعض الأمور التي اعتيد التسامح فيها كانوا يضعفون روايته ولا يروونها إلا بحذر مع التنبيه على جهات الضعف في ذلك. وقد جمع البخاري مئات الألوف من الأحاديث فلم يرض منها إلا نحو ستة آلاف وأربع مئة ورفض بقيتها فلم يدونها في كتابه وقد نبه النقاد إلى أحاديث ضعيفة في كتابه على شدة ما تحرى في اختياره لها وغالى في تسرية أشد ضروب النقد عليها. قوم بلغوا هذا المبلغ من النقد بالنسبة لأحاديث نبيهم هل يعقل أن يتسامحوا في أمر كتاب ربهم فيقبلوا فيه الروايات الضعيفة ويغضوا أبصارهم على ما فيه من الآيات المحرفة فلا ينبسوا في أمرها ببنت شفة.
اللهم لا، ليس ذلك من روح النقد الذي أفاضه الإسلام على أهله في شيء، وليس هو مما يتفق مع روح الإسلام الذي يطالب الآخذ بالدليل على ما يقوله وما يعتقده ويلقى عليه عهدة كل عمل يعمله حتى خطرات الخواطر وجيشان السرائر {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}[البقرة: 284].